فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك}
لما كانَ الصدرُ محلاًّ لأحوالِ النفسِ ومخزناً لسرائرِها من العلومِ والإدراكاتِ والملكاتِ والإراداتِ وغيرِها عبرَ بشرحِه عن توسيعِ دائرةِ تصرفاتِها بتأييدِها بالقوةِ القدسيةِ وتحليتِها بالكمالاتِ الأُنسيةِ أيْ ألمْ نفسحْهُ حَتَّى حَوَى عَالَمِيْ الغيبِ والشَّهادةِ وجمعَ بينَ مَلكَتِيْ الاستفادةِ والإفادةِ فمَا صدَّكَ الملابسةُ بالعلائقِ الجسمانيةِ عنِ اقتباسِ أنوارِ الملكاتِ الروحانيةِ وَمَا عاقكَ التعلقُ بمصالحِ الخلقِ عن الاستغراقِ في شؤونِ الحَقِّ وقيلَ: أريدَ بهِ ما رُويَ أنَّ جبريلَ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في صباهُ أو يومَ الميثاقِ فاستخرجَ قلبَهُ فغسلَهُ ثمَّ ملأهُ إيماناً وعلماً. ولعلَّه تمثيلٌ لما ذُكِرَ أو أُنْمُوذَجٌ جُسمانيٌّ ممَّا سيظهرُ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من الكمالِ الرُّوحانيِّ والتعبيرُ عن ثبوتِ الشَّرحِ بالاستفهامِ الإنكاريِّ عنِ انتفائِه للإيذانِ بأنَّ ثبوتَهُ منَ الظهورِ بحيثُ لا يقدرُ أحد على أنْ يجيبَ عنْهُ بغيرِ بَلَى وزيادةُ الجارِّ والمجرورِ معَ توسيطِه بينَ الفعلِ ومفعولِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الشَّرحَ من منافِعِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومصالحِه مسارعةً إلى إدخالِ المسرةِ في قلبِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ وتشويقاً لهُ إلى ما يعقبُهُ ليتمكَّنَ عندَهُ وقتَ ورودِهِ فضل تمكِّنٍ.
وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك} عطفٌ على ما أشيرَ إليهِ من مدلولِ الجملةِ السابقةِ كأنَّه قيلَ: قدْ شرحنَا صدرك ووضعنَا الخ، و{عنكَ} متعلقٌ بـ: {وضعنَا} وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ معَ أنَّ حقَّه التأخرُ عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ المسرةِ والتشويقِ إلى المؤخَّرِ ولِما أنَّ في وصفِه نوعَ طولٍ فتأخيرُ الجارِّ والمجرورِ عنْهُ مخلٌّ بتجاوبِ أطرافِ النظمِ الكريمِ أيْ حططنَا عنكَ عِبأكَ الثقيلَ.
{الذى أنقض ظهرك} أيْ حملَهُ على النقيضِ وَهُوَ صوتُ الانقضاض والانفكاكَ كمَا يُسْمَعُ منَ الرَّحلِ المُتداعِي إلى الانتقاضِ من ثقلِ الحملِ، مُثّل بهِ حالُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا كانَ يثقلُ عليهِ ويغمُّهُ من قرطاتِه قبلَ النبوةِ أو من عدمِ إحاطتِه بتفاصيلِ الأحكامِ والشرائعِ أو من تهالُكِهِ على إسلامِ المعاندينَ من قومِه وتلهفِهِ ووضعِهِ عنهُ مغفرتَهُ وتعليمِ الشرائعِ وتمهيدِ عُذرِهِ بعدَ أنْ بلَّغَ وبالغَ.
وقرئ {وَحططنَا} {وَحللنَا} مكانَ {وضعنَا} وقرئ {وحللنَا عنكَ وِقْرَك}.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} بعنوان النبوةِ وأحكامِها أيَّ رفعٍ حيثُ قرنَ اسمُهُ باسمِ الله تعالَى في كلمةِ الشهادةِ والأذانِ والإقامةِ وجُعلَ طاعتُه طاعتَه تعالَى وصلَّى عليهِ هُو وملائكتُه وأمرَ المؤمنينَ بالصَّلاةِ عليهِ وسُمِّيَ رسولَ الله ونبيَّ الله، والكلامُ في العطفِ وزيادةِ لكَ كالذي سلفَ.
وقوله تعالَى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} تقريرٌ لما قبلَهُ ووعدٌ كريمٌ بتيسيرِ كُلِّ عسيرٍ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وللمؤمنينَ كأنَّه قيلَ: خوَّلناكَ ما خوَّلناكَ من جلائلِ النعمِ فكُنْ على ثقةٍ بفضلِ الله تعالَى ولطفِه فإنَّ معَ العسر يسرا كثيراً وفي كلمة معَ إشعارٌ بغايةِ سرعةِ مجيءِ اليسرِ كأنَّه مقارنٌ للعسرِ {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} تكريرٌ للتأكيدِ أو عدةٌ مستأنفةٌ بأنَّ العسر مشفوعٌ بيسرٍ آخرَ كثوابِ الآخرةِ كقولكَ: إنَّ للصائمِ فرحةً إن للصائم فرحةً أيَّ فرحة عندَ الإفطارِ وفرحةً عندَ لقاءِ الربِّ وعليهِ قوله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لَنْ يغلبَ عسرٌ يسرينِ» فإنَّ المُعرَّفَ إذَا أعيدَ يكونُ الثاني عينَ الأولِ سواءً كانَ معهوداً أو جنساً، وأما المنكرُ فيحتملُ أنْ يرادَ بالثانِي فردٌ مغايرٌ لمَا أريدَ بالأولِ {فَإِذَا فرغت} أيْ منَ التبليغِ وقيلَ: من الغزوِ {فانصب} فاجتهدْ في العبادةِ واتعبْ شكراً لما أوليناكَ من النعمِ السالفةِ ووعدناكَ من الآلاءِ الآنفةِ وقيلَ: فإذَا فرغت من صلاتِك فاجتهدْ في الدُّعاءِ وقيلَ: إذَا فرغت من دنياكَ فانصب في صلاتِكَ {وإلى رَبّكَ} وَحْدَهُ {فارغب} بالسؤالِ ولاَ تسألْ غيرَهُ فإنَّه القادرُ على إسعافِكَ لا غيرُهُ.
وقرئ {فرَغِّبْ} أي فرَغِّبِ النَّاسَ إلى طلبِ ما عندَهُ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك}
هو معطوف على قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى} [الضحى: 6] وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «سَألْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً، وَوَدَدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْألْهَا قَطُّ، فَقُلْتُ: اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً.
فَقال الله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى} قُلْتُ: بَلَى قال: {وَوَجَدَكَ ضالا فهدى} [الضحى: 7] قُلْتُ: بَلَى قال: {وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} [الضحى: 8] قُلْتُ: بَلَى.
قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} الآية»
.
وروي عن بعض المتقدمين أنه قال: سورة التوبة والأنفال، بمنزلة سورة واحدة، وسورة ألم نشرح لك والضحى بمنزلة سورة واحدة، وسورة لإيلاف قريش وألم تر كيف فعل ربك، بمنزلة سورة واحدة.
قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} يعني: ألم نوسع قلبك بالتوحيد والإيمان، وهذا قول مقاتل.
وقال الكلبي: أتاه جبريل فشرح صدره، حتى أبدى قلبه، ثم جاء بدلو من ماء زمزم، فغسله وأنقاه مما فيه، ثم جاء بطشت من ذهب، قد ملئ علماً وإيماناً، فوضعه فيه.
ويقال الانشراح للعلم، حتى علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مؤمناً من وقت الميثاق، فشق صدره على جهة المثل، فيعبر به عنه.
ويقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} يعني: ألم نلين قلبك بقبول الوحي، وحب الخيرات.
ويقال: معناه، ألم نطهر لك قلبك، حتى لا يؤذيك الوسواس، كسائر الناس.
ويقال: معناه {أَلَمْ نَشْرَحْ} يعني: نوسع لك قلبك بالعلم، كقوله وعلمك مما لم تكن تعلم.
ثم قال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك} يعني: غفرنا لك ذنبك، كقوله: {لّيَغْفِرَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ويقال: غفرنا لك ذنبك، وذلتك بترك الاستثناء ويقال: معنى {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك} يعني: عصمناك من الذنوب {الذى أنقض ظهرك} لو لم يعصمك الله، لأثقل ظهرك، ويقال: معناه أخرجنا من قلبك الأخلاق السيئة، وطبائع السوء {الذى أنقض ظهرك} يعني: التي لو لم ننزعها عن قلبك، لأثقل عليك حمل النبوة والرسالة.
ثم قال عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} يعني: في التأذين والخطب، حتى لا أذكر إلا وذكرت معي، يعني: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل يوم خمس مرات، في الأذان والإقامة.
قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} يعني: مع الشدة سعة، يعني: بعد الشدة سعة في الدنيا.
ويقال: بعد شدة الدنيا سعة في الآخرة، يعني: إذا احتمل المشقة في الدنيا، ينال الجنة في الآخرة.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} على وجه التأكيد.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: لا يغلب العسر يُسْرَينْ.
وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن أنه قال: كانوا يقولون: لا يغلب عسر واحد يُسْرَين، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو كان العسر في حُجر، جاء اليسر حتى يدخل عليه، لأنه قال تعالى: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} ويقال: إن مع العسر وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم {يسرا}، وهو دخوله يوم فتح مكة، مع عشرة آلاف رجل في عز وشرف.
ثم قال عز وجل: {فَإِذَا فرغت فانصب} يعني: إذا فرغت من الجهاد، فاجتهد في العبادة {وإلى رَبّكَ فارغب} يعني: اطلب المسألة إليه.
قال قتادة: فإذا فرغت من الصلاة، فانصب في الدعاء.
هكذا قال الضحاك، وقال مجاهد، {فَإِذَا فرغت} من اشتغال نفسك {فانصب} يعني: فَصَلِّ ويقال: {فَإِذَا فرغت} من الفرائض فانصب في الفضائل، فيقال: {فَإِذَا فرغت} من الصلاة، فانصب نفسك للدعاء والمسألة، {وإلى رَبّكَ فارغب} يعني: إلى الله فارغب في الدعاء، برفع حوائجك إليه، والله أعلم وأحكم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة الشرح:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} ألمْ نفتح ونوسّع ونليّن لك قلبك بالإيمان والنبوّة والعلم والحكمة.
{وَوَضَعْنَا} وحططنا {عَنكَ وزرك الذي أنقض ظهرك} أثقل ظهرك فأوهنه، ومنه قيل للبعير إذا كان رجيع سفر قد أوهنه وأنضاه: نقض.
وقال الفرّاء: كسر ظهرك حين سمع نقيضه: أي صوته، قال الحسن وقتادة والضحّاك: يعني ما سلف منه في الجاهلية، وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو، وقيل: ذنوب أُمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها وإهتمامه لها، وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: يعني خفّفنا عليك أعباء النبوة والقيام بأمرها، وقيل: وعصمناك عن احتمال الوزر.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} أخبرنا عبد الخالق بقراءتي عليه قال: حدّثنا ابن جنب قال: حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل قال: حدّثنا صفوان يعني ابن صالح الثقفي أبو عبد الملك قال: حدّثنا الوليد يعني ابن مسلم قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية ورفعنا لك ذكرك، قال: «قال الله سبحانه: إذا ذكرتُ، ذكرتَ معي».
وحدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ قال: حدّثنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني قال: أخبرنا عمران بن موسى قال: حدّثنا أبو معمر قال: حدّثنا عباد، عن عوف، عن الحسن في قوله: {ورفعنا لك ذكرك}، قال: إذا ذكرتُ ذكرتَ معي، وقال قتادة: يرفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها: أشهد ان لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وقال مجاهد: يعني بالتأذين، وفيه يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أغرّ عليه للنبوةِ خاتم ** من الله مشهورٌ يلوح ويشهدُ

وضمَّ الإله اسم النبي إلى اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذِّن أشهد

وقال ابن عطاء: يعني جعلت تمام الإيمان بي بذكرك، وقيل: ورفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء، وقيل: بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله، وقال ذو النون: همم الأنبياء تجول حول العرش وهمّة محمد صلى الله عليه وسلم فوق العرش، لذلك قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك}، فذكره ذكره، ومفزع الخلق يوم القيامة إلى محمد صلى الله عليه وسلم كمفزعهم إلى الله، لعلمهم بجاهه عنده.
{فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} أي مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد المشركين، ومزاولة ما أنت بسبيله يسرا ورخاءً بأن يظهرك عليهم، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعاً وكرها.
{إِنَّ مَعَ العسر يسرا} كرّره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء، وقيل: {فإن مع العسر يسرا}: في الدنيا، {إن مع العسر يسرا}: في الآخرة.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا ابن عليّة، عن يونس، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عُسْرٌ يُسرَين».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا علي بن مردأراد الخياط قال: حدّثنا قطن بن بشير قال: حدّثنا جعفر بن سليمان، عن رجل، عن إبراهيم النخعي قال: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنّه لن يغلب عسرٌ يسرين، إنّه لن يغلب عسر يسرين.
قال العلماء في معنى هذا الحديث: لأنه عرّف العسر ونكّر اليسر، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفة ثم أعادته فهو هو، وإذا نكرّته ثم كررته فهما اثنان، وقال الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب كتاب النظم وهو يكلم الناس في قوله عليه السلام: «لن يغلب عسر يسرين» فلم يحصل غير قولهم: إن العسر معرفة واليسر نكرة مكررة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول إذ لا يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إنّ مع الفارس سيفاً إنّ مع الفارس سيفاً أن يكون الفارس واحدًا والسيف اثنين، ولا يصح هذا في نظم العربية.
فمجاز قوله: «لن يغلب عسر يسرين» إن الله بعث نبيّه عليه السلام مقلاّ مخففاً فعيّره المشركون لفقره، حتى قالوا أنجمع لك مالا؟ فاغتمّ، فظنّ أنهم كذّبوه لفقره، فعزّاه الله سبحانه وتعالى وعدد عليه نعماءه ووعده الغنى فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} إلى قوله: {ذكرك}، فهذا ذكر امتنانه عليه، ثم ابتدأ ما وعده من الغنى ليسلّبه مما خامر قلبه، فقال: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا}، والدليل عليه دخول الفاء في قوله: {فإنّ} ولا يدخل الفاء أبداً إلاّ في عطف أو جواب.
ومجازه: لا يحزنك ما يقولون فان مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا، ثم أنجزه ما وعده وفتح عليه القرى العربية، ووسّع ذات يده، حتى يهب المائتين من الإبل، ثم ابتدأ فضلا آخر من الآخرة فقال تأسيةً له: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا}، والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو وحروف النسق فهذا عام لجميع المؤمنين، ومجازه: إنّ مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة، فقوله: «لن يغلب عسر يسرين» أي لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يُغلب أحدهما وهو يسر الدنيا، فأمّا يسر الآخرة فدائم غير زايل؛ اي لا يجمعهما في الغلبة، كقوله عليه السلام: «شهرا عيد لا ينقصان» اي لا يجتمعان في النقصان.
وقال أبو بكر الوراق: مع أختها بالدنيا جزاء الجنة، قال القاسم: بردا هذه السعادة من أسحار الدنيا إلى رضوان العقبى، وقراءة العامة بتخفيف السينين.
وقرأ أبو جعفر وعيسى، بضمهما، وفي حرف عبد الله: {إنّ مع العسر يسرا}، مرة واحدة غير مكررة.
أخبرني أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد الرمجاري وأبو الحسن علي بن محمد ابن محمد البغدادي قالا: حدّثنا محمد بن يعقوب الأصم قال: حدّثنا أحمد بن شيبان الرملي قال: حدّثنا عبد الله بن ميمون القداح قال: حدّثنا شهاب بن خراش، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس قال: أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه، ثم سار بي مليّاً، ثم التفت إلى فقال لي: «يا غلام»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك، لما قدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإنّ لم تستطع فاصبر، فإنّ في الصبر على ما يُكره خيراً كثيراً، واعلم أنّ مع الصبر النصر، وأنّ مع الكرب الفرج و{إِنَّ مَعَ العسر يسرا}».
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري يقول: سمعت أبا على محمد ابن عامر البغدادي يقول: سمعت عبد العزيز بن يحيى يقول: سمعت عمي يقول: سمعت العتبي يقول: كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم فأُلقي في روعي بيت شعر فقلت:
أرى الموت لن أصبح ولاح ** مغموماً له أروح

فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفاً يهتف، من الهواء:
ألا يا أيّها المرءُ ال ** ذي الهمُّ به برّح

وقد أنشد بيتاً لم ** يزل في فكره يسنح

إذا اشتدّ بك العسر ** ففكّرْ في ألمْ نشرح

فعسرٌ بين يسرين ** إذا فكّرتها فافرح

قال: فحفظت الأبيات، وفرّج الله غمّي.
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق الجيزنجي قال: أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي:
فلا تيأسْ وإن أُعسرت يوماً ** فقد أُيسرت في دهر طويلِ

ولا تظننّ بربك ظنّ سوء ** فإنّ الله أولى بالجميل

فإنّ العسر يتبعه يسارٌ ** وقول الله أصدق كلِّ قيل

وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني محمد بن سليمان بن معاد الكرخي قال: أنشدنا أبو بكر الأنباري:
إذا بلغ العسر مجهوده ** فثق عند ذاك بيسر سريع

ألم تر بخس الشتاء القطيع ** يتلوه سعد الربيع البديع

ولزيد بن محمد العلوي:
إن يكنْ نالك الزمان ببلوى ** عظمت شدّةً عليك وجلّتْ

وتلتها قوارع باكيات ** سئمت دونها الحياة وملّت

فاصطبر وانتظر بلوغ مداها ** فالرزايا إذا توالت تولّت

وإذا أوهنت قواك وحلّت ** كُشفتْ عنك جملة فتخلّت

وقال آخر:
إذا الحادثات بلغن المدى ** وكادت تذوب لهنّ المهجْ

وحلّ البلاء وقلّ الرجاء ** فعند التناهي يكون الفرجْ

وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السلوسي قال: أنشدني أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي النسابة قال: أنشدني سليمان بن أحمد الرقي:
توقع إذا ما عرتك الخطوب ** سروراً يسيّرها عنك قسراً

ترى الله يخلف ميعاده ** وقد قال إنّ مع العسر يسرا

{فَإِذَا فرغت فانصب} قال ابن عباس: إذا فرغت من صلاتك فانصب إلى ربّك في الدعاء، واسأله حاجتك وارغب اليه. ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك إلى ربّك. الضحّاك: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربّك في الدعاء، وأنت جالس قبل أن تسلم. قتادة: أمره أن يبالغ في دعائه إذا فرغ من صلاته. عن الحسن: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب في عبادة ربّك. عن زيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. عن منصور، عن مجاهد: إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب في عبادة ربّك وصلِّ.
وأخبرنا محمد بن عبوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الحميم قال: حدّثني الفراء قال: حدّثني قيس بن الربيع، عن أبي حصين قال: مرّ شريح برجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أُمر الفارغ، إنما قال الله عزّ وجلّ: {فَإِذَا فرغت فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب}.
قال الفراء: فكأنّه في قول شريح: إذا فرغ الفارغ من الصلاة أو غيرها.
وقوله: {فانصب} من النصب، وهو التعب والدأب في العمل، وقيل: أمره بالقعود للتشهد إذا فرغ من الصلاة والانتصاب للدعاء. عن حيان، عن الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة، فانصب: أي استغفر لذنبك وللمؤمنين. عن جنيد: فإذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. عن أبو العباس بن عطاء: فإذا فرغت من تبليغ الوحي، فانصب في طلب الشفاعة.
{وإلى رَبِّكَ فارغب} في جميع أحوالك لا إلى سواه، وقيل: إذا فرغت من أشغال الدنيا، ففرّغ قلبك لهموم العقبى. عن جعفر: اذكر ربّك على فراغ منك عن كل ما دونه، وقيل: إذا فرغت من العبادة، فانصب إلى الإعراض عنها مخافة ردّها عليك، وإلى ربّك فارغب، والاستغفار لعملك كالخجل المستحيي.
أخبرنا الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي المقري قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله ابن محمد المزني قال: حدّثنا الوليد بن بيان ويحيى بن محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد السطوي قال: حدّثنا ابن أبي برة قال: حدّثنا عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله، فلمّا بلغت إلى والضحى قال: كبّر حتى نختم مع خاتمة كل سورة، فإني قرأت على شبل بن عباد وعلي بن عبد الله بن كثير، فأمراني بذلك.
قال: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، فأمره بذلك وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أُبي بن كعب، فأمره بذلك، وأخبره أُبيّ بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله، فأمره بذلك. اهـ.